خطابات من جدات فلسطين - الكتاب الثاني

لقد أوغل الشعر العربي الحديث في غربة تجريدية حرضت عليها الحداثة أو وهمها، حتى باتت القصيدة «أرضا يبابا » لا مكانًا للحياة ومفرداتها وقضاياها، وراحت تنأى بجانبها عما سمي (الواقع»، بحجة أنه مبتذل وعادي ولا يليق بجوهرانية الشعر وسموه. وهكذا فإنّ «فلسطين»، بوصفها واقعا كادت تغادر منطقة الحداثة الشعرية، منذ ثمانينات القرن الماضي، لولا وجود محمود درويش وقلة من الشعراء الذين لم يعدوا حداثيين إلا بصعوبة وتحفظ. علي العامري، في عمله الشعري الجديد هذا، يفعل ما يفعله الشاعر الحقيقي الشجاع: لا يستسلم لسلطة المقولات، ولا يسمح لتجربته الشعرية أن تركد مهما بلغ نضجها وزخمها، ولذا فإنّه يهجم على «النص) فيحرّره من يبابية التجريد، سواء بالكتابة عن ثيمة «فلسطين» المهجورة، أو بتحرير لغة القصيدة من سطوة المجاز واللجوء بجرأة فاتنة أحيانًا إلى استخدام معجم شرس تحريضي واضح لا يخجل من التقرير ولا يتعفف عن مقاربة الواقع، ويغامر في ترداد أسماء الأماكن والنباتات والأشياء : بلذة بلذة . مكشوفة؛ ثم يهجم على صنم «المقولات بفأسه الشعرية فيحطمه، ويكتب نا نصا تهجديا في متردم فلسطين الذي غادره الشعراء، يكتب كأنّه : ب كانه يبتهل بلغة تعلو وتخفت، وتغمض وتفصح، وتتأمل وتقرر . لكنها تحتفظ، في كل حالاتها، بدرجة حرارة النص الحي. هذا العمل في الحقيقة، لا ينتمي إلى الواقعية، بل إلى الكينونية التي لا يتعالى فيها الجمال عن الحياة ولا ينفصل عنها، وهو جدير بالثناء والقراءة التي هي أهم مكافأة يمنحها القارئ للنص الحي.

Write a review

Note: HTML is not translated!
    Bad             Good